الرِّضَا-جنَّةُ-الدُّنيا-ومفتاحُ-الغِنى
العنوان | الرِّضَا جنَّةُ الدُّنيا ومفتاحُ الغِنى |
العناصر | 1/معنى الرضا 2/فضائل الرضا وعواقبه 3/متى يرضى العبد؟ 4/هل الرضا يعني الاستسلام للأقدار؟ 5/قصة وعبرة. |
الشيخ | عبد الله الطوالة |
عدد الصفحات | 11 |
الحمدُ للهِ، الحمدُ للهِ الكريمِ الشّكورِ، الحليمِ الصَبورِ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، الرحيمُ الغفورُ، وأشهدُ أنْ مُحمداً عبدهُ ورسولهُ، ومصطفاهُ وخليلهُ، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبهِ والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم البعثِ والنشورِ، وسلَّم تسليماً كثيراً.
أمَّا بعدُ: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أنَّ زِينةَ المؤمنِ أنْ يكونَ بين الناسِ وقوراً، وفي خلْوته لربه حامداً شكُوراً، مُستغفِراً مُنيباً ذَكُوراً. (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا * كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا)[الإسراء:18-19].
معاشِرَ المؤمنينَ الكِرام: اقْتَضتْ حِكْمَةُ اللهُ -تبارك وتَعالى-، أنَّ دَوامَ الحَالِ مِنْ المحالِ، وأنَّ حَياةَ العبدِ لا بدَّ أن تتقلَّبَ بين شِدَّةٍ ورَخاءٍ، وعُسْرٍ ويُسْرٍ، وفَرحٍ وحُزنٍ، ورَاحَةٍ وتَعبٍ، وصِحَةٍ ومَرضٍ، وغِنىً وفَقْرٍ، قالَ الشاعِرُ الحكِيم:
ثَمانِيةٌ تَجرِي على النَّاسِ كُلِّهِمْ *** ولا بُدَّ للإنسَانِ يَلقَى الثَّمَانِيَة
سُرورٌ وهَمٌ واجتِمَاعٌ وفُرْقَةٌ *** وعُسْرٌ ويُسْرٌ ثمَّ سُقْمٌ وعَافِية
وكُلُّ ذلك تمحيصٌ لإيمانِ الناس، قال -تعالى-: (ألم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)[العنكبوت:1-3]، ويَقُولُ -جلَّ وعلا-: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ)[الأنبياء:35].
ومن بين أكوامِ تلك الابتلاءاتِ المتنوِعَة، يَبحَثُ الناسُ عَنْ السَّعادةِ والطُمأنِينةِ والحياةِ الطيبةِ، وهُم في بَحثِهِم هذا طَرائِقَ قِدَدًا، ومَذاهِبَ شَتَّى، وقَليلٌ مِنهُم مَنْ يُوفَقُ للهُدَى، ويُيَسَّرُ لليُسْرَى، يُقولُ -جلَّ وعلا-: (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)[الملك:22]، ويُقُولُ -سُبحَانَهُ-: (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)[آل عمران:162].
إنُّه الرِّضَا يا عِباد اللهِ: أنْ يَرضَى العَبدُ عَن اللهِ -تَعالى- في كُلِّ أحْيَانِهِ، وعلى جَميعِ أحْوالِهِ، عَافاهُ اللهُ أو ابتلاه، أفْقَرهُ أو أغْنَاه، مَنعَهُ أو أعْطَاهُ.
الرِّضَا كمَا عَرَّفَهُ بَعْضُهُم: هو سُكُونُ القلبِ لما اختارهُ لك الربُّ، واليَقِينُ أنَّ الخيرَ والخِيَرَةَ، فيما قَضَاهُ اللهُ وقَدَّرَهُ؛ الرِّضَا -كما يُقولُ ابن القيّمِ- بابُ اللهُ الأعظمِ، وجَنَّةُ الدُّنيا، ومُستراحُ العَابدِين، مَنْ مَلأ قَلبهُ بالرِّضَا، مَلأ اللهُ صَدْرَهُ أمْناً وغِنىً، الرِّضَا بالقَضَاءِ، وبما قَسَمَ اللهُ وأعطَى، بلا اعتراضٍ ولا مِرَا، هو بَوابَةُ السَّعَادَةِ، ومِفتَاحُ الرَّاحَةِ، وبَلسَمُ السَكِينَةِ، وتِريَاقُ الطُمَأنِينَةِ والهنَاء.
المؤمِنُ الرَّاضِي بما كُتبَ لهُ من القَضَاء، وما قُسِمَ لهُ من العطاء، خيراً كانَ أو شرَّاً، هو وحُدَهُ من يجِدُ سَكِينَةَ النّفسِ، وطُمأنينةَ القلبِ، وانشراحَ الصَدْرِ، هو وحْدَهُ الذي تَهونُ عَليهِ المصِيبَةَ، ويَخِفُ عَليهِ وقْعُهَا، هو وَحْدَهُ مَنْ يَثْبُتُ ويُرْبَطُ على قلْبِهِ، تأمَّلْ قولَهُ -تَعالى-: (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ)[التغابن:11]، فقد ذَكَرَ بَعضُ المفسِّرينَ: أنَّها المصِيبَةُ تُصِيبُ الرَّجَلَ، فيَعْلَمَ أنَّها مِن عِندِ اللهِ عزَّ وجلَّ، فيُسَلِّمَ لها ويَرْضَى، يقول الإمام أبو حاتم: “لو لم يَكنْ في القَناعَةِ والرِّضَا إلا رَاحَةُ النَّفْسِ، وطُمأنينةُ القَلبِ، لكَانَ الواجِبُ على العَاقِلِ ألَّا يُفارِقَ القَناعَةَ والرِّضَا في كُلِّ أحْوالِهِ”.
والذينَ خَبِرُوا الحيَاةَ جَيِّداً، وجَرَّبوا أحْوالَهَا كَثِيراً، يَعْلَمُونَ أنَّ السَّعادَةَ والطُمأنِينةَ والحيَاةَ الطَيِّبَةَ ليسَتْ في الغِنَى وكَثْرَةِ المتَاعِ، وإنَّما في القَنَاعَةِ والرِّضَا والتَّسْلِيمِ للقَضَاءِ، ألم يَقُلْ -صلى الله عليه وسلم-: “ارْضَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَكَ، تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ“، وجاءَ في الصحيحين قوله -صلى الله عليه وسلم-: “ليس الغِنى عَنْ كَثْرَةِ العَرَض، ولكنَّ الغِنى غِنَى النَّفْس“.
أليسَ مُلْفِتاً -يا عِبَادَ اللهِ- أنَّ أكْثَرَ مَنْ يتعَاطَى مُسَكِنَاتِ القَلقِ، ويَتنَاولَ المهدِئَاتِ بانتظامٍ، هُم مَنْ يَعِيشُونَ في القُصورِ الفَارِهَةِ، والمسَاكِنِ الفَخمَةِ، بَينمَا نَجدُ أنَّ أكثرَ مَن يَرتَسِمُ على مُحياهُم البِشْرَ والسُّرورَ، وتمتَلئُ جَوانِبَهُم بالسَّعَادَةِ والحُبورِ، هم أصحَابُ البُيوتَاتِ البَسِيطةِ، والحيَاةِ المتواضِعةِ!!
لقد كانَ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابهُ الكرام وهم يحفِرُونَ الخنْدَقَ، يَمرُونَ بظُروفٍ قَاسِيةٍ جِداً، فَقد اجتَمَعَ عَليهِم الخَوفُ الشَدِيدُ، والجُوعُ الشَدِيدُ، والبَرْدُ الشَدِيدُ، والتَّعَبُ الشَدِيدُ، فلمَّا بَشْرَهُم النَّبيُ -عليه الصلاةُ والسلامُ- بتلكَ البَشَائِرِ العَجِيبَةِ، قالَ المؤمِنونَ: صَدَقَ اللهُ ورسولُهُ، وقالَ المنافِقونَ: ما وعَدنَا اللهُ ورسُولهُ إلا غُروراً.
هلْ انتبهْتُمْ يا عِبادَ اللهِ؟ فالظُروفُ هيَ الظُروف، لكنَّ النفوسَ ليْسَت هيَ النُّفوسُ، والإيمانُ ليْسَ هو الإيمان، والقَناعاتُ ليْسَت هيَ القَناعَات، جاءَ في صَحِيحِ البخاري، قالَ النبيُ -صلى الله عليه وسلم-: “إنَّ عِظَمَ الجزاءِ مع عِظَمِ البلاءِ، وإنَّ اللهَ إذا أحبَّ قومًا ابتلاهُم؛ فمَن رَضِيَ فلهُ الرضَا، ومَن سِخِطَ فلهُ السُخْط“، وفي الحدِيثِ الآخَرِ، وهو في صحيح مسلم قال -صلى الله عليه وسلم-: “عجباً لأمرِ المؤمنِ إنَّ أمرهُ كلَّهُ لهُ خَيرٌ، إنْ أصابتُهُ سَراءَ شكرَ فكانَ خيراً، وإن أصابتُهُ ضراءَ صَبرَ فكانَ خيراُ لهُ، وليسَ ذلك إلَّا للمؤمن“.
فكم من مَحبُوبٍ في طَيَّاتِ مَكْرُوهٍ!، وكم مِنْ مَكْرُوهٍ في طَيَّاتِ مَحبوبٍ!، وكم مِنْ مِحْنةٍ في ثَوبِ مِنْحَةٍ!، وكم مِنْ مِنْحَةٍ في ثَوبِ مِحْنةٍ!، وكم مِنْ عَطَاءٍ في صُورةِ حِرمَانٍ!، وكم مِنْ حِرمَانٍ في صُورةِ عَطاءٍ!، (فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا)[النساء:19]، (لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ)[النور:11]، (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)[البقرة:216].
كُنْ عَنْ هُمومِكَ مُعْرِضاً *** وكِلِ الأُمُورَ إلى القَضَاءِ
فلَرُبَّ أمْرٍ مُسْخِطٍ *** لكَ في عَواقِبهِ الرِّضَا
أَبْشِرْ بخَيرٍ عَاجِلٍ *** تَنْسَى بِهِ مَا قد مَضَى
اللهُ يَفعَلُ مَا يشَاءُ *** ومَا عَليكَ سِوى الرِضَا
ثم اعلَمُوا يا عِبادَ اللهِ: أنَّ الرِّضَا ليسَ هو أن تَستَسلِم لواقِعٍ يُمكِنُكَ تَغييرُهُ للأفضلِ، إذا أخذت بالأسبابِ المناسبة؛ كالتداوي من المرض، أو السَعْي وراءَ الرِّزق، أو دَفَعِ ضَرَرٍ مَا، كمَا قالَ أميرُ المؤمنينَ الفَاروقَ : “نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللهِ إلى قَدَرِ اللهِ”، إنَّما الرِّضَا هو التَّسْلِيمُ للقَضَاءِ، مِنْ غيرِ جَزعٍ ولا تسَخُطٍ ولا مِرَا، وبَعْدَ الأخْذِ بكُلِّ الأسبابِ الممْكِنَةِ والمناسِبةِ، كالذي تزوجَ ولم يُرزَق الولد، رَغْمَ سَعْيهِ للعِلاجِ، وكالذي أُصيبَ بمرضٍ عُضَالٍ فلم يَستطِع دَفْعَهُ بالتداوي، ونحو ذلك من الأمثلة، فهُنا يَأتي التَّحَلِّي بِصِفةِ التَّسلِيمِ والرِضَا، بما كَتبَ اللهُ وقضَى، فتنْزِلَ بالقَلبِ الطُمأنينةَ، وتشْعُرُ النفْسُ بالسَكِينةِ، وفوقَ ذلكَ تُضَاعَفُ الأجورُ والدَّرجَات، قالَ علي بن أبي طالب يعزِّي رجلاً مَاتَ ولدهُ: “إنْ صبرتَ جرى عليك المقدورُ، وأنتَ مأجورٌ، وإنْ جَزِعتَ جرى عليكَ المقدورُ وأنت مأزورٌ”.
فيا أيها المسلِم: كُنْ عَادِلاً مُنصفاً وأعطِ كُلَّ أمرٍ حقهُ، واقْدُرْ لكُلِّ مَوقِفٍ قَدْرُهُ، لا تُضَخِّمْ، ولا تُقزِّم، لا تُهوِّلْ، ولا تُهمِلْ، وخُذْ لِكلِّ حَالةٍ أسبَابها المناسِبةِ والممكِنةِ، وتَوكَلَّ على العَزِيزِ الرَّحِيمِ، وكَفى بالله وكيلاً، ثمَّ إذا حَصلَ المقْدُورُ، وفَاتَكَ ماكُنتَ تَظنُّهُ سيَنفَعُكَ، أو أصَابَكَ ما كُنتَ تَظنُّهُ سيَضُرُكَ، فلا تَنْدَمْ ولا تَتَحسَّرْ، وسلِّمْ الأمرَ لصَاحِبِ الأمرَ، وارْضَ بما قَضَى وقَدَّر، واعلَمْ أنَّ ما أصَابَك لم يكُنْ ليُخطِئَك، فَلاَ تَقُلْ لَوْ أَنِّى فَعَلْتُ كذا لكَانَ كَذَا، وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا * وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا)[الأحزاب:1-3].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم….
الحمد لله كما ينبغي لجلاله وجماله وكماله عظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبد لله ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه، وسلم تسليمًا كثيراً.
أما بعدُ: فاتقوا الله عباد اللهِ وكونوا مع الصادقين، وكونوا ممن يستمعُ القولَ فيتبعُ أحسنهُ، (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ)[الزمر:18].
معاشر المؤمنين الكرام: قصةٌ حقيقيةٌ يرويها الشيخُ الراحل د. حسن حبنكة الميداني، فيقول: كنت عائداً إلى بيتي قبل المغرب بساعة في يوم من أيام رمضان المبارك، فاستوقفني رجلٌ ممن يترددون على درسي، ثم سلَّم عليَّ بلهفةٍ وقال لي: أستحلفُكَ بالله أنْ تفطِرَ عندي اليوم، يقول الشيخ: عقدَت لساني لهفتُه، فقلت له: يا أُخي أهلي بانتظاري، وظروفي لا تسمح، لكن الرجل أصرَّ، فذهبتُ معهُ إلى بيتهِ الذي لا أعرفُ مكانهُ، ولا ظُروفهُ، وصلنا إلى بيتهِ فإذا هو بيتٌ متواضعٌ جِداً، عِبارةٌ عن سطحٍ صغير، به غرفةٌ واحدة، ومطبخٌ وفناءٌ مكشوف، والبيت له مدخلٌ ضيقٌ، ذو درجٍ من الخشب المتهالِك القديم، إلا أن السَّعادَةَ والحبورَ كانا يملآنِ قلبَ هذا الرَّجُل، وكانَ البِشرُ والألَقُ يَغمُرُانِ مُحياهُ المشرِق، وكانت عِباراتُ الشُكرِ والامتِنَانِ تَتدفَقُ من شَفتِيهِ بلا تَوقُفٍ، وهو يقولُ: انظُرْ شَيخِي لهذا البيت، إنَّهُ مِلكِي، الحمدُ للهِ ليسَ لأحدٍ شيئاً عِندي، انظُر شَيخِي: فالشَمسُ تُشرِقُ على غُرفَتي في الصِباحِ من هنا، وتَغربُ من الجهةِ الأُخرى، وهُنا أقرأ القرآنَ بعدَ الفجر، وقبلَ المغيبِ، وزوجتي -وفقها الله ورضى عَنهَا-، تَقعُدُ هنا تدعو الله لنا، واللهِ يا شيخ كَأنَّنا في الجنَّةِ.
يقولُ الشيخُ: أسمعني كلُّ هذا الكلامِ وأنا أصعدُ تلك الدرجات الخشبية بحذرٍ شديد، خشيةَ السقوطِ.
ثمَّ بعدَ أنْ وصلنا إلى الغُرفةِ وجلستُ، دخل هو للمطبخ، فسمِعتُهُ يقولُ لزوجتهِ بصَوتٍ خَافِت: أحضري لنا الفُطورَ، الشيخُ حسن حبنَّكة سوفَ يُفطرُ مَعنَا، فقالت لهُ زوجتهُ: يا فضيحتي، ليس لدينا سِوى فولِنا المعتاد، ولم يبقَ على الأذان سِوى نِصفُ ساعةٍ، وليسَ لدينا ما نطبَخُهُ، وحتى لو كانَ عندنا فلا يُوجدُ وقتٌ.
يقولُ الشيخُ: فناديتُ الرجلَ وقلتُ لهُ: يا أخي الكريم: لي عندَك شرطٌ، فقال: تفضلْ شَيخِي، فقلتُ له: أنا لا أُفطِرُ إلا على الماء والتمر، وتَمْرِي مَعِي، ولا أُفْطِرُ إلا بَعدَ نِصفِ ساعةٍ من الأذان، بعدمَا أستفتحُ بالماء والتَّمرِ ثمَّ أصلي وأُنهي وردِي، ولا آكلُ إلا فولاً مُدَمَّساً، وإنْ كان مَعهُ شيءٌ من البَطاطا فلا بأس، وغيرَ ذلك فلا آكُلُ شيئاً، لأنني في حِميةٍ صِحيَّةٍ، فقال الرجل: كما تحبُ.
يقولُ الشيخ: أفطرتُ عِندهُ وأنا في غايةِ السَّعادةِ والبهجَةِ، وأحبَبتُ الدُّنيا على لِسانِ هذا الرجلِ الراضِي، الذي ما تَوقَفتْ من فَمهِ عِباراتُ الثَناءِ والحمدُ على نِعمِ اللهِ، وعلى هذا البيتِ الذي مَلَّكةُ اللهُ إيَّاهُ، وعلى تلكَ الزَّوجَةِ الصَالِحةِ الرَّضِيَةِ، وعلى هذه الحياةِ الجَميلةِ التي يَتغَنى بِها طَوالَ الوقتِ.
يَقولُ الشيخُ: وبعدَ عِدَّةِ أيامٍ، دُعِيتُ معَ مَجموعةٍ مِن الوجَهاءِ، للإفطارِ عِندَ أحدِ الأثرِياءِ، ممن أَنعمَ اللهُ عليهِم بالمال والجاه والأولاد، وكانت الدعوة في مزرعتهِ الفخمةِ، حيثُ تتوسَطُها فِيلا كبيرة، بل هي قَصرٌ مُتوسِطٌ، تُطِلُ على مَسبحٍ كبير، ومَربَطٍ للخيل، يقولُ الشيخُ: أفطرنَا عندَ الرَّجُلِ، وأثناءَ مُغادَرتي، انفرَدَ بي صاحبُ الدعوةِ، فأخذَ يَشْكُو لي مِن ضِيقِ الحَياةِ، وهُمومِ التَّجَارَةِ، ومَتَاعِبِ الأولادِ، وسُوءِ طِباعِ زوجتِهِ، وطَمَعِ كُلِّ مَنْ حَولَهُ بأموالِهِ، ومِنْ كَثرةِ المصَارِيفِ، وتعَبهِ الشدَيدِ لإرضَاءِ الجميع، وأنَّهُ قد سَئِمَ من هذه الحياة، ويتمنى الموتَ ليخْلُصَ من هذه الهمومَ التي لا تَتوقفُ.
يقولُ الشيخُ: لقد كانت المسافَةُ بين بابِ الفِيلا وبين بابِ سيارتي قصِيرةً، ولكنَّ هذا الرجلَ الثريَ استطاعَ خِلالها، أنْ يجعلَ الدُّنيا تَسْوَدُ في عِيني، وشَعرتُ بِحملٍ ثَقيلٍ أطبَقَ على صَدْرِي وأَنْفَاسِي، حتى أني بعدَ أنْ ركِبتُ سَيارَتي، نَظرتُ إلى السماء، وتنفست بعُمقٍ، وقلتُ بملءِ فَمي: الحمدُ للهِ على نِعمةِ الرضا.
أُخيَّ المبارك: أَمرُكَ بيَدِكَ، وحَياتُكَ مِنْ صُنْعِ أَفْكَارِكَ، وأنتَ مَنْ تَكْتُبُ قِصْةَ نَجَاحِكَ أو فَشَلِكَ، فَغَيِّرْ قَناعَاتِك، لتَتَغيَّرَ مُجريَاتِ حَياتِكَ، فإمَّا أنْ تَرْضَى فتسْعَدَ وترْقَى، وإمَّا أنْ لا تَرْضَى فتخْسَرَ وتَشْقَى.
ويا ابن آدم عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، البر لا يبلى والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان، اللهم صلِّ